الأحد، 30 ديسمبر 2012

عشرون عاماً...

من أجمل المقولات ، عندما يتخللها قصص وطنية نستوحيها من وحي الواقع ، فأنا ولدتُ في عام ألف و تسعمائة و ثلاثة وتسعين ، عام وُقّعتْ فيه اتفاقية الإهانة والإذلال في أوسلو ، الإتفاقية التي أذلت العرب عامة و الفلسطنيين خاصة ، والتي شكلت بمجملها مع ملحقاتها الاقتصادية من اتفاقيات كإتفاقية باريس ، وصمة عار على جبين كل فلسطيني ، بحيث وقع الفلسطيني إثرَ هذه الإتفاقية تحتَ الذل والإذعان ... ، ولكن شهادة الميلاد الرسمية تدلّ دليلاً واضحاً على نشأتي في بلادٍ غير بلادي وهي (ليبيا) وفي عام يسبق هذا العام ببضع أيام ، وذلك تمهيداً لإلتحاقي للمدرسة مبكراً.

 في السنة الأولى ، لم أدرك أيْ معنى للحياة وواصلتها بالثانية ، ولكنْ الجميل في الثانية هو في شقَّي الآخر ، وعلمتُ أن طفلاً جديداً سيأتي ويحتل مكاني ونصيبي و يجنبني قليلاً عن حنان والديّ. يقولون بأني كنت مشاكساً ، لعوباً ، أبله ، لا أنأى عن تخريب حاجياتي و ألعاب أخوتي وأصدقائي.
 و في السنة الثالثة كانت يكثر فيها مغامرات مع سيارات صغيرة ، كانت أمي تبتاعها لي ، وقد بلغت حينها من الفن في التخريب شيئاً ، فقد ملأني كثيراً من الشغف، والشعور بالفضول في معرفة سر عمل السيارة ، وكيفية إصدار الصوت منها و غيره .. ، وربما لا أذكر كثيراً يزيد عن ذلك .

في السنة الرابعة ، كانت سنة أيضاً مفعمة بالألعاب و الحكايات الطفولية البريئة التي لم أذكر منها الكثير .
في الخامسة كانت أوّل خطواتي الجريئة خارج البيت ، وكانت بدايةً لحياة علمية ، إذ التحقتُ بأحد رياض الأطفال ، وزاملتُ بعض الأصدقاء ذوي العيون اللامعة، ـ وكأنّ في مخيلتك أخي القاريء بأني التحقتُ بكلية الطب البشري مبكراً آنذاك ـ، لكن لا بأس من حياة الأطفال.
وفي السنة التي التحقتُ فيها بالمدرسة الإبتدائية في عامي السادس ،فقد تعلّمتُ القليل من الحساب والأبجديات العربية ، كنت دائماً منضبطاً ملازماً في الفصل ، على الرغم من أنّي قد ابتدأتُ حياتي مشاكساً .

بعد الإنتهاء من العام المدرسي الأول ، قرر والدي الرحيل عن البلد التي نشأت فيها ، وكان ذلك في صيف عام ألف و تسعمائة و تسعة وتسعين ،و قد أذكر بأنّ رحلة الرحيل ، كانت شاقة و متعبة لي. ، ولم يكنْ في مخيلتي ولا بين سطور ذاكرتي وجود نظام مصري سابق ، وجندي صهيوني يقف على بوابة المعبر ،يسمح بدخول من يهوى به.
هذا كان حديث القرن الماضي ،وأما عن الحالي ،الذي قد أهان الحر العزيز الأبي، وأورثت أهله الشقاء في بقاع الأرض.

بدايةً كانت الانتفاضة ،حين دخولي السنة السابعة، كنت حينها في الصف الثاني الإبتدائي ، فقد التحقتُ بمدرسة غزة المشتركة في مدينة غزة ، فهي مدرسة بُنِيتْ خصيصاً للاجئين. فلم أعلم سرّ الانتفاضة جيداً ولا سبب الصراع ، أذكر حينها بأني كنت جالساً في بيت جدي ،و سمعتُ رجالاً قد قاموا بالتصدي و بعض المناوشات مع العدو، مع بداية الانتفاضة، وكنتُ أسمع لخطابات رئيسٍ هنا وهناك عبرَ التلفاز، وتحليلات أهل البيوت ، ولكني لم يتسنى لي أنْ أدركتَ شيئاً .
أذكر أنّ في ذلك العام أن ذاكرتي كانت مليئة من القراءات المشوّهة التي لا رباط بينها ، والتي تجلّت أمرها بعد أعوام ـوالتي كانت من الصعب حينها تحليل ثناياها أو توضيح أسرارهاـ
في عامي العاشر انتقلتُ إلى فضاء جديد كان يُهيَّيء لي بأنّه سيكون أجمل وأشد بهاءً وأملاً ، ولكن مع قليل من الحزن لفراقي لمكانٍ أحببته كثيراً.

في ذلك العام حدثت عملية "السور الواقي" ،أيْ في عام 2002 ، التي لم يتسنَ لي أنْ عرفتَ اسمه إلا بعد أن بلغت من الوعي والنضج درجةً . فكان حصار ياسر عرفات الشهيد الذي لمْ أكن أحبه ، وكثيرٌ من أطياف الشعب حينها ، لم يحبونه مثلي.
ربما كان ذلك لإقترانه باسم السلطة الفلسطينية ،التي وصلت بسمعتها إلى الحضيض شيئاً لم يسبق له مثيل (امتلأت ساحاته فساداً واختلاساً وسرقات و غيرها من الفضائح ...) ، ققد كان روّادها ابتدعوا الطرق في السرقات والنهب ، فقد كان الشهيد أبو عمار رافضاً بشدة لهذه الأشكال المشينة ، وقد كان يفاوض العدو مفاوضات وإنْ لم تكن مقبولة ،ولكن ذلك في سبيل دعم المقاومة ـ من تحت الطاولةـ
و لكن أهل المكر والدهاء ما كان لهم إلا أن يأتوه في رام الله ، وحصاره لمدة أربعين يوماً ، وكادوا أن يقتلوه أمام مرأى و مسمع العالم وحكامه.

في العام ألفين وثلاثة ،هذا العام الغريب المليء بالتفاصيل والدراما الكريهة لي ،وللعالم العربي المحبّ للخير.
في أحد أيامي المدرسية ، بعد أن قرع جرس المدرسة، إيذاناً لنا بالذهاب إلى البيوت ، فقد ركبت الباص المدرسي متجهاً إلى البيت بعد يوم دراسي مرهق كالعادة ، فأجالس التلفاز مع أهل بيتي ، وإذ يسقط على سمعي خبر لم أكن أتوقعه ـ سقوط بغداد ـ ،ولكن كان في مخيلتي بأنّ للمكر والخيانة حدود ونهاية، عند حديثك عن بلد ورئيس يمني نفسه من أجل بلد ذو رخاء وتطور ورقي ، فإذا بأزلام حاشية الرئيس العراقي آنذاك يفشون أسرار العملية للعدو الأمريكي ، فقد كنتُ حينها أنتظر اللحظة التي يعلن العراق نفسه انتصاره ، وتربعه على أحد درجات السلّم العالمي في مجلس الأمن ـ مجرد خيال طفل صغير في الحادية عشر من عمره ـ .
هكذا تعلمتُ في ذلك العام ، بأن واقعنا العربي أسوأ مما يخطر على بال المثقفين والمتعلمين والساسة ،فكيف لخيالات الأطفال.
في عامي الثاني عشر التحقت في المدرسة الإعدادية ، فكانت مرحلة مليئة بالأحداث البريئة التي هيهات أنْ أرى مثيلاً لها، أما في نفس العام متوالية لأحداث سيئة من أحداث سبقتها ، إذ أعلنت الحكومة الفرنسية في الحادي والعشرين من تشرين الثاني ،استشهاد  القائد ياسر عرفات ، بعد صراعه مع مرض غامض ، فمنذ ذلك التاريخ لم نسمعْ برئيس يحبّ شعبه و يموتَ من أجله كأبو عمار .

بعد استشهاد أبو عمار ، أصبح الشعب بلا قيادة حقيقية ، فتصارعتْ الشخصيات في الأحزاب الكبيرة، عمن يخلف منصب عرفات .
في عام ألفين و خمسة ، قرر أرئيل شارون إخلاء مستوطنات قطاع غزة وانسحابه منها ، حينها كنت في الثالثة عشر من عمري، لم أدرك بأن انسحابه من غزة يحمل بين ثناياه الحقد الدفين ،و يوصلنا إلى حالنا المأساوي الذي نحن عليه الآن.

و في عامي الرابع عشر في الألفين وستة، كان عاماً مليئاً بالتفاصيل والحكايات المؤثرة ،التي يقشعر لها الأبدان عند الحديث عنها، كان عاماً سياسياً بإمتياز ، التي تضجر منها الأسماع وتذرف لها الدموع دمعاً حزيناً.


ابتداءاً بحملاتٍ انتخابية لمرشحي الرئاسة الفلسطينية خلفاً لعرفات ، تليها حملات أكبر للمتنافسين على السلطة التشريعية ،في بلاد لا يتجاوز مساحتها أشبارٍ عديدة.
حينئذ لم أكن أفقه المعنى الحقيقي للشعارات التي كانت ترفع من قبل فصيل أو آخر، إلا بكلماتها الواضحة الجلية ، وليس مستقبل العمل بها ، فقد لم أكن أُعجَب بشعارات حركات علمانية ، وأخرى مستقلة ، ولكنْ أُعجبتُ بشعارات أرادت التغيير ، مع أني لو أُعجبت بشعارات حركات مستقلة لكان أهون وألطف.
كانت الشوارع مليئة بالأعلام والرايات والناس المناوين للأحزاب وصراخات ، ومهللين ، يجوبون شوارع الوطن ،إعلانًا لمرشحيهم .،فكان في تاريخ الخامس والعشرين، من كانون الثاني من عام ألفين وستة ، كان القرار النهائي لاختيار الرئيس وهيكلة الحكومة ، بدأوا الناس صباحاً بالتوافد إلى مراكز الاقتراع .

في ذلك الحين ،قد انتابني شيء من الحزن لأنّ لم يكن من حقي الانتخاب ، وقد جاء في بالي حينها بأنّ في عام ألفين وعشرة ، من حقي الانتخاب وأني قد اجتزتُ السن القانوني ، ولكن كانت مخيلتي ضيّقة ومحدودة ولم أدرك ولم أعلم بأنّ الحال الفلسطيني كغيره من حال العرب ،بأنّ بعد إجراء الانتخابات ،لا حاجة لانتحابات جديدة أخرى تتبعها بعد أربع سنوات ،فكلّ الأحزاب اكتفت بنصيبها.

في عامي الدراسي ، المليء بالحيوية والنشاط الذاتي ،إذ اشتركتُ بالبرلمان المدرسي ، الذي يشكّل نموذجاً مبسطاً عن البرلمان الفلسطيني ،فقد قمت بأيامٍ جميلة فيه ،فقد شعرت نفسي كإنني أقوم بواجب وطني بإتجاه شعبي هو "المدرسة".
في العام نفسه، كان أوّل خطواتي واعياً خارج وطني ، إلى قاهرة المعزّ ،هناك رأيتُ معنىً آخراً للحياة ،قضيتُ أجمل أيامي مع أهلي وأشقائي.
تعرّفت على أماكن أثرية وقمتُ بزيارتها، والتي قد ادّاركتها يوماً في صفحات كتبي المدرسية ..
بعد أن انتهيتُ من رحلة ممتعة ،توجهت إلى وطني الأسير، الذي محالٌ أنْ يرى الفرحة يوماً ،ولكنّ نصر الله لعباده لقريب.
بعد أيام قليلة ، شعرت بأنّ أيام الصيف بدأ حرّه بالإشتداد ،فشاليط صار في غزة أواخر حزيران، والكهرباء انطفأتْ مع أول أيام قدومه
، وتمّ اختطاف أعداد كبيرة من الفسلطينين رداً على الاختطاف..

وبدأت الأحلام تكبر وتنمو وتتسع ، وتقارب بين البعيد الغامض والبعيد البيّن ،ويمضي الصيف مسرعاً كخيال الظلام.
فالوطن منذ ذلك الحين أصبح قسمان ،كصفحتين من كتاب لا رابط بينهما، فمنذ ذلك التاريخ أصبح الوطن أكثر بعداً لنيله.

ألفين وسبعة كانت سنتي الأولى مع آخر مرحلة مدرسية ، التحقت في مدرسة شيّدها الشهيد أبو عمّار في عام 2004 قبل استشهاده ، وإنني أفخر بأنّي كنت يوماً أنتمي إلى مقاعدها.
فقد تعلمت فيها الكثير ،و جاورت أعزّ الأصدقاء والزملاء ، الذين قرروا أن يلتحقوا في الجامعات ما يشتهونه .
في العام ألفين وثمانية ممزوجاً بعام ألفين وتسعة ،وهو العام الذي يسبق العام المدرسي الأخير، بدأ بإضراب المعلمين وانتهى أيضاً بإضراب للمعلمين.

ولكنْ خلال هذا العام مرّ بغزة ومدارسها حربٌ ، وهي الأولى من نوعها منذ حرب نكسة عام 1967 ، فهي الحرب التي زادتْ من مراراة العيش ، والتي سرعان ما أدرك بأن الأمور تختلف عن العادة، فهي حرب سيدفع فيها الخاسر قوت قاتله ،ويصبح المقتول بداره و أهله غنيمة لقاتله، حربٌ دموية قُتل فيها الحجر والشجر قبل البشر ،حرب في بضع وعشرين يوماً لم تبق من المنازل والمآذن شيئاً ولم تذرْ . ولم تترك من أهل بيت ولا عشيرة ، إلا وتركتْ بصمة حزنٍ وألم ،لكننا بكل لم ننهزم.

كُنّا للثبات والصبر عنواناً يحتذى به في أرجاء العالم، نمرّ بعام ألفين وعشرة العام الذي كنتُ انتظره ، وأنّي قد فقدتُ واجتزت مرحلة الطفولة بثماني عشر سنة ، في هذا العام الجميل ، إذ كنت طالباً في الثانوية العامة، عام فيه للحيوية والنشاط مكاناً ، وحضّرتُ نفسي لنْ أغادرَ مرحلة من مراحل الحياة .

في عام ألفين وأحدَ عشر ،عام وجدنا فيه سقوط الزعماء ، فقد قررت الرحيل والابتعاد إلى بلاد غير بلادي ...
وفي عام 2012 ،كان ملء أحداثها يفوق وصف وخيال القاريء ،ولكنها انتهت بتشرين حار ،كانت فيها حرب الأيام الثمانية ،وخضت هذه الأيام كمن عاش في تلك الأيام في غزة ، حرب أيضاً كرر العدو الصهيوني عاداته ،التي ذكرناها سابقاً ،كما عرفناه في كافة الحروب والمعارك التي خضناها مع ذاك العدو الوقح.
ولكن الفرق في هذا ،بأنّي شعرت بالحرب من وراء شاشات التلفاز، ولكن نحمدُ الله تعالى على كلّ حال، و منحَ الصبر والسلوان لأهالي الشهداء، وشافى جرحانا.


تعلّمتُ بأنّ الحياة لا تسير إلا تحت عنوان الدين والإيمان ، وأنّ الحياة سواها ضنك وعبث وحزن.
و تعلّمت بأنّ الله لا يضيع عباده ، وأنّ الله يخيّر لنا ما فيه خيرٌ وصلاح لنا وللأمة , وتعلّمت بأنّ الله يزجي المحبة في قلوبنا وقلوب محبينا ، ويبارك فيها حين ننادي بها ونعيش بها.


اليوم هذا الذي أوردتُ فيه قولاً طويلا في آخر ساعاته ،هو العام المليْ بالتفاصيل الكثيرة ، وليخيرَ الله لي ما أحبُّ أنْ أكون ، لي ولأهلي ولوطني ،وما كنت أحبّ أن أكون هنا في براتسلافا ،وأكتب هذا القول في عشية عشريني ...